فصل: من فوائد ابن العربي في السورة الكريمة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد ابن العربي في السورة الكريمة:

قال رحمه الله:
سورة الشمس فِيهَا آيَةٌ واحدة:
قوله تَعَالَى: {وَلَا يَخَافُ عقباها}: رَوَى ابْنُ وَهْبٍ وَابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ قَالَا: أَخْرَجَ إلَيْنَا مَالِكٌ مُصْحَفًا لِجَدِّهِ زَعَمَ أَنَّهُ كَتَبَهُ فِي أَيَّامِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، حِينَ كَتَبَ الْمَصَاحِفَ، مِمَّا فِيهِ: وَلَا يَخَافُ عقباها بِالْوَاوِ، وَهَكَذَا قرأ أَبُو عَمْرٍو مِنْ القراء السَّبْعَةِ وَغَيْرُهُ.
فإن قيل: لَمْ يَقرأ بِهِ نَافِعٌ، وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ: السُّنَّةُ قراءة نَافِعٍ.
قُلْنَا: لَيْسَ كُلُّ أحد مِنْ أَصْحَابِهِ، وَلَا كُلُّ سَامِعٍ يَفْهَمُ عَنْهُ فِي قراءة نَافِعٍ الْهَمْزَ وَحَذْفَهُ، وَالْمَدَّ وَتَرْكَهُ، وَالتَّفْخِيمَ وَالتَّرْقِيقَ، وَالْإِدْغَامَ وَالْإِظْهَارَ، فِي نَظَائِرَ لَهُ مِنْ الْخِلَافِ فِي القراءات؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ السُّنَّةَ فِي تَوَسُّعِ الْخَلْقِ فِي الْقراءة بِهَذِهِ الْوُجُوهِ مِنْ غَيْرِ ارْتِبَاطٍ إلَى شَيْءٍ مَخْصُوصٍ مِنْهَا.
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي تَأْوِيلِ قوله: {أُنْزِلَ القرآن عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ}، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ لِمُعَاذٍ: «لَا تَكُنْ فَتَّانًا، اقرأ {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّك الْأَعْلَى}، {وَالشَّمْسِ وضحاها} وَنَحْوَهُمَا»، فَخَصَّهُمَا بِالذِّكْرِ. اهـ.

.من فوائد ابن تيمية في السورة الكريمة:

سورة الشمس:
قال شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد بْنُ تَيْمِيَّة قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ:
فَصْلٌ:
فِي قوله تعالى: {وَالشَّمْسِ وضحاها وَالْقَمَرِ إذَا تلاها وَالنَّهَارِ إذَا جلاها وَاللَّيْلِ إذَا يغشاها}. وَضَمِيرُ التَّأْنِيثِ فِي {جلاها} و{يغشاها} لَمْ يَتَقَدَّمْ مَا يَعُودُ عَلَيْهِ إلَّا الشَّمْسُ فَيَقْتَضِي أَنَّ النَّهَارَ يُجَلِّي الشَّمْسَ وَأَنَّ اللَّيْلَ يغشاها و(التَّجْلِيَةُ) الْكَشْفُ وَالْإِظْهَارُ و(الْغَشَيَانُ) التَّغْطِيَةُ وَاللَّبْسُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ظَرْفَا الزَّمَانِ وَالْفِعْلُ إذَا أُضِيفَ إلَى الزَّمَانِ فَقِيلَ هَذَا الزَّمَانُ أَوْ هَذَا الْيَوْمُ يُبْرِدُ أَوْ يُبَرِّدُ أَوْ يُنْبِتُ الْأَرْضَ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَالْمَقْصُودُ أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ فِيهِ كَمَا يُوصَفُ الزَّمَانُ بِأَنَّهُ عَصِيبٌ وَشَدِيدٌ وَنَحْسٌ وَبَارِدٌ وَحَارٌّ وَطَيِّبٌ وَمَكْرُوهٌ وَالْمُرَادُ وَصْفُ مَا فِيهِ. فَكَوْنُ الشَّيْءِ فَاعِلًا وَمَوْصُوفًا هُوَ بِحَسَبِ مَا يَلِيقُ بِهِ كُلُّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ.
فَالنَّهَارُ يُجَلِّي الشَّمْسَ وَاللَّيْلُ يغشاها وَإِنْ كَانَ ظُهُورُ الشَّمْسِ هُوَ سَبَبُ النَّهَارِ وَمَغِيبُهَا سَبَبُ اللَّيْلِ. وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ بِقوله: {وَالشَّمْسِ وضحاها} فَأَضَافَ الضُّحَى إلَيْهَا. وَالضُّحَى يَعُمُّ النَّهَارَ كُلَّهُ كَمَا قال: {أَمِ السَّمَاءُ بناها رَفَعَ سَمْكَهَا فسواها وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا} وَقال: {وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إذَا سَجَى}. وَقوله: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بناها وَالْأَرْضِ وَمَا طحاها وَنَفْسٍ وَمَا سواها فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وتقواها} فَقَدْ قِيلَ: إنَّ (مَا) مَصْدَرِيَّةٌ وَالتَّقْدِيرُ: وَالسَّمَاءِ وَبِنَاءِ اللَّهِ إيَّاهَا وَالْأَرْضِ وَطَحْوِ اللَّهِ إيَّاهَا وَنَفْسٍ وَتَسْوِيَةِ اللَّهِ إيَّاهَا. لابد مِنْ ذِكْرِ الْفَاعِلِ فِي الْجُمْلَةِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يُقَدَّرَ الْمَصْدَرُ هُنَا مُضَافًا إلَى الْفِعْلِ فَقَطْ فَيُقَالُ (وَبِنَائِهَا) لِأَنَّ الْفَاعِلَ مَذْكُورٌ فِي الْجُمْلَةِ فِي قوله: {وَمَا بناها}، {وَمَا طحاها} فَإِنَّ الْفِعْلَ لابد لَهُ مِنْ فَاعِلٍ فِي الْجُمْلَةِ وَمَفْعُولٍ أَيْضًا. فلابد أَنْ يَكُونَ فِي التَّقْدِيرِ الْفَاعِلُ وَالْمَفْعُولُ. لَكِنْ إذَا كَانَتْ مَصْدَرِيَّةً كَانَتْ (مَا) حَرْفًا لَيْسَ فِيهَا ضَمِيرٌ فَيَكُونُ ضَمِيرُ الْفَاعِلِ فِي {بناها} عَائِدًا عَلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ بَلْ إلَى مَعْلُومٍ وَالتَّقْدِيرُ: وَالسَّمَاءِ وَمَا بناها اللَّهُ وَهَذَا خِلَافُ الْأَصْلِ؛ وَخِلَافُ الظَّاهِرِ.
وَالْقول الثَّانِي: أَنَّهَا مَوْصُولَةٌ وَالتَّقْدِيرُ: الَّذِي بناها وَاَلَّذِي طحاها. و(مَا) فِيهَا عُمُومٌ وَإِجْمَالٌ يَصْلُحُ لِمَا لَا يُعْلَمُ وَلِصِفَاتِ مَنْ يَعْلَمُ كَقوله تَعَالَى: {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} وَقوله: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ}. وَهَذَا الْمَعْنَى يَجِيءُ فِي قوله: {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى}. وَهَذَا الْمَعْنَى كَمَا أَنَّهُ ظَاهِرُ الْكَلَامِ وَأَصْلُهُ هُوَ أَكْمَلُ فِي الْمَعْنَى أَيْضًا. فَإِنَّ الْقَسَمَ بِالْفَاعِلِ يَتَضَمَّنُ الْإِقْسَامَ بِفِعْلِهِ بِخِلَافِ الْإِقْسَامِ بِمُجَرَّدِ الْفِعْلِ. وَأَيْضًا فَالْأَقْسَامُ الَّتِي فِي القرآن عَامَّتُهَا بِالذَّوَاتِ الْفَاعِلَةِ وَغَيْرِ الْفَاعِلَةِ. يُقْسِمُ بِنَفْسِ الْفِعْلِ كَقوله: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا} وَكَقوله: {وَالنَّازِعَاتِ}، {وَالْمُرْسَلَاتِ} وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَهُوَ سُبْحَانَهُ تَارَةً يُقْسِمُ بِنَفْسِ الْمَخْلُوقَاتِ؛ وَتَارَةً بِرَبِّهَا وَخَالِقِهَا كَقوله: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} وَكَقوله: {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} وَتَارَةً يُقْسِمُ بِهَا وَبِرَبِّهَا. وَفِي هَذِهِ السُّورَةِ أَقَسَمَ بِمَخْلُوقٍ وَبِفِعْلِهِ؛ وَأَقْسَمَ بِمَخْلُوقٍ دُونَ فِعْلِهِ فَأَقْسَمَ بِفَاعِلِهِ.
فَإِنَّهُ قَالَ: {وَالشَّمْسِ وضحاها وَالْقَمَرِ إذَا تلاها وَالنَّهَارِ إذَا جلاها وَاللَّيْلِ إذَا يغشاها}. فَأَقْسَمَ بِالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَآثَارِهَا وَأَفْعَالِهَا كَمَا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي قوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} وَقَالَ: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} فَإِنَّهُ بِأَفْعَالِ هَذِهِ الْأُمُورِ وَآثَارِهَا تَقُومُ مَصَالِحُ بَنِي آدَمَ وَسَائِرُ الْحَيَوَانِ. وَقَالَ: {وَالشَّمْسِ وضحاها} وَلَمْ يَقُلْ: (وَنَهَارِهَا) وَلَا (ضِيَائِهَا) لِأَنَّ (الضُّحَى) يَدُلُّ عَلَى النُّورِ وَالْحَرَارَةِ جَمِيعًا وَبِالْأَنْوَارِ وَالْحَرَارَةِ تَقُومُ مَصَالِحُ الْعِبَادِ. ثُمَّ أَقْسَمَ بِالسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَبِالنَّفْسِ وَلَمْ يَذْكُرْ مَعَهَا فِعْلًا فَذَكَرَ فَاعِلَهَا فَقَالَ: {وَمَا بناها}، {وَمَا طحاها}، {وَنَفْسٍ وَمَا سواها}. فَلَمْ يَصْلُحْ أَنْ يُقْسِمَ بِفِعْلِ النَّفْسِ لِأَنَّهَا تَفْعَلُ الْبِرَّ وَالْفُجُورَ وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَا يُقْسِمُ إلَّا بِمَا هُوَ مُعَظَّمٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ. لَكِنْ ذَكَرَ فِي ضَمِيرِ الْقَسَمِ أَنَّهُ خَالِقُ أَفْعَالِهَا بِقوله: {وَمَا سواها فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وتقواها}. فَإِذَا كَانَ قَدْ بَيَّنَ أَنَّهُ خَالِقُ فِعْلِ الْعَبْدِ الَّذِي هُوَ أَظْهَرُ الْأَشْيَاءِ فِعْلًا وَاخْتِيَارًا وَقُدْرَةً فَلَأَنْ يَكُونَ خَالِقَ فِعْلِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى.
وَأَمَّا السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ فَلَيْسَ لَهُمَا فِعْلٌ ظَاهِرٌ يُعَظَّمُ فِي النُّفُوسِ حَتَّى يُقْسِمَ بِهَا إلَّا مَا يَظْهَرُ مِنْ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ. وَالسَّمَاءُ وَالْأَرْضُ أَعْظَمُ مِنْ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالنَّفْسُ أَشْرَفُ الْحَيَوَانِ الْمَخْلُوقِ. فَكَانَ الْقَسَمُ بِصَانِعِ هَذِهِ الْأُمُورِ الْعَظِيمَةِ مُنَاسِبًا وَكَانَ إقْسَامُهُ بِصَانِعِهَا تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ صَانِعٌ مَا فِيهَا مِنْ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ. فَتَضَمَّنَ الْكَلَامُ الْإِقْسَامَ بِصَانِعِ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ وَبِأَعْيَانِهَا وَمَا فِيهَا مِنْ الْآثَارِ وَالْمَنَافِعِ لِبَنِي آدَمَ. وَخَتَمَ الْقَسَمَ بِالنَّفْسِ الَّتِي هِيَ آخِرُ الْمَخْلُوقَاتِ فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ آخِرَ الْمَخْلُوقَاتِ. وَبَيَّنَ أَنَّهُ خَالِقٌ جَمِيعَ أَفْعَالِهَا وَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ خَالِقٌ جَمِيعَ أَفْعَالِ مَا سواها. وَهُوَ سُبْحَانَهُ مَعَ مَا ذَكَرَ مِنْ عُمُومِ خَلْقِهِ لِجَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ عَلَى مَرَاتِبِهَا حَتَّى أَفْعَالِ الْعَبْدِ الْمُنْقَسِمَةِ إلَى التَّقْوَى وَالْفُجُورِ وبَيْنَ انْقِسَامِ الْأَفْعَالِ إلَى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَانْقِسَامِ الْفَأعلىنَ إلَى مُفْلِحٍ وَخَائِبٍ سَعِيدٍ وَشَقِيٍّ. وَهَذَا يَتَضَمَّنُ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ. فَكَانَ فِي ذَلِكَ رَدٌّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ الْمَجُوسِيَّةِ الَّذِينَ يُخْرِجُونَ أَفْعَالَ الْعِبَادِ عَنْ خَلْقِهِ وَإِلْهَامِهِ وَعَلَى الْقَدَرِيَّةِ المشركية الَّذِينَ يُبْطِلُونَ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ وَوَعْدَهُ وَوَعِيدَهُ. احْتِجَاجًا بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ.
وَقَدْ قِيلَ فِي قوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زكاها وَقَدْ خَابَ مَنْ دساها} إنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إلَى (اللَّهِ) أَيْ (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زكاها اللَّهُ وَقَدْ خَابَ مَنْ دساها اللَّهُ). وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلظَّاهِرِ بَعِيدٌ عَنْ نَهْجِ الْبَيَانِ الَّذِي أَلَّفَ عَلَيْهِ القرآن إذْ كَانَ الْأَحْسَنُ (قَدْ أَفْلَحَتْ مَنْ زكاها اللَّهُ وَقَدْ خَابَتْ مَنْ دساها) وَهَذَا ضَعِيفٌ. وَأَيْضًا فَقوله: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وتقواها} بَيَانٌ لِلْقَدَرِ فَلَا حَاجَةَ إلَى ذِكْرِهِ. مَرَّةً ثَانِيَةً عَقِبَ ذَلِكَ فِي مِثْلِ هَذِهِ السُّورَةِ الْقَصِيرَةِ. وَلِهَذَا لَمْ يُذْكَرْ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي إثْبَاتِ الْقَدَرِ إلَّا هَذِهِ الْآيَةُ دُونَ الثَّانِيَةِ كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي الْأُسُودِ الدؤلي قَالَ قَالَ لِي عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ: أَرَأَيْت مَا يَعْمَلُ النَّاسُ الْيَوْمَ وَيَكْدَحُونَ فِيهِ أَشَيْءٌ قُضِيَ عَلَيْهِمْ وَمَضَى عَلَيْهِمْ مِنْ قَدَرٍ قَدْ سُبِقَ أَوْ فِيمَا يَسْتَقْبِلُونَ بِهِ مِمَّا أَتَاهُمْ بِهِ نَبِيُّهُمْ وَثَبَتت الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ؟ فَقُلْت: بَلْ شَيْءٌ قُضِيَ عَلَيْهِمْ وَمَضَى عَلَيْهِمْ.
قال فَقَالَ: أَفَلَا يَكُونُ ذَلِكَ ظُلْمًا؟ قَالَ: فَفَزِعْت مِنْ ذَلِكَ فَزَعًا شَدِيدًا وَقُلْت: كُلُّ شَيْءٍ خَلْقُ اللَّهِ وَمِلْكُ يَدِهِ فَلَا يُسْأَل عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ. فَقَالَ لِي: يَرْحَمُك اللَّهُ: إنِّي لَمْ أُرِدْ بِمَا سَأَلْتُك إلَّا لِأُحْرِزَ عَقْلَك. فَإِنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ مزينة أَتَيَا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فَقَالَا: يَا رسول اللّه أَرَأَيْت مَا يَعْمَلُ النَّاسُ الْيَوْمَ وَيَكْدَحُونَ فِيهِ أَشَيْءٌ قُضِيَ عَلَيْهِمْ وَمَضَى فِيهِمْ مِنْ قَدَرٍ قَدْ سُبِقَ أَوْ فِيمَا يَسْتَقْبِلُونَ بِهِ مِمَّا أَتَاهُمْ بِهِ نَبِيُّهُمْ وَثَبَتت الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ؟ فَقَالَ: «لَا بَلْ شَيْءٌ قُضِيَ عَلَيْهِمْ وَمَضَى فِيهِمْ» وَتَصْدِيقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَنَفْسٍ وَمَا سواها فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وتقواها} فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ تَصْدِيقَ مَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ الْقَضَاءِ قوله: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وتقواها} وَاَلَّذِي فِي الْحَدِيثِ هُوَ الْقَدَرُ السَّابِقُ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ وَكِتَابِهِ وَكَلَامِهِ؛ وَهَذَا إنَّمَا تُنْكِرُهُ غَالِيَةُ الْقَدَرِيَّةِ. وَأَمَّا الَّذِي فِي القرآن فَهُوَ خَلْقُ اللَّهِ أَفْعَالَ الْعِبَادِ وَهَذَا أَبْلَغُ. فَإِنَّ الْقَدَرِيَّةَ الْمَجُوسِيَّةَ تُنْكِرُهُ. فَاَلَّذِي فِي القرآن يَدُلُّ عَلَى مَا فِي الْحَدِيثِ وَزِيَادَةٌ وَلِهَذَا جَعَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُصَدِّقًا لَهُ. وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ. أحدهَا: أَنَّهُ إذَا عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُلْهِمُ لِلْفُجُورِ وَالتَّقْوَى وَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ ظُلْمٌ كَمَا تَقوله الْقَدَرِيَّةُ الإبليسية وَلَا مُخَالَفَةَ لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ كَمَا تَقوله الْقَدَرِيَّةُ المشركية فالْإِقرار بِأَنَّ اللَّهَ كَتَبَ ذَلِكَ وَقَدَّرَهُ قَبْلَ وُجُودِهِ مِمَّا لَا نِزَاعَ فِيهِ عِنْدَ الْإِنْسَانِ مِنْ جِهَةِ الْقَدَرِ. وَلِهَذَا قَدْ أَقَرَّ بِالْقَدَرِ السَّابِقِ جُمْهُورُ الْقَدَرِيَّةِ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ خَلْقَ الْأَفْعَالِ. وَلَمْ يُثْبِتْ أحد مِنْ الْقَدَرِيَّةِ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَيُنْكِرُهُ مِنْ جِهَةِ الْقَدَرِ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ ذَلِكَ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ إذَا ثَبَتَ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ فِعْلِ الْعَبْدِ وَأَنَّهُ الْمُلْهِمُ الْفُجُورَ وَالتَّقْوَى كَانَ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ مَصْنُوعَاتِهِ وَالشُّبْهَةُ الَّتِي عَرَضَتْ لِلْقَدَرِيَّةِ الَّتِي سَأَلَ المزنيان النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا هِيَ فِي أَعْمَالِ الْعِبَادِ الَّتِي عَلَيْهَا الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ خَاصَّةً وَلَمْ يُنْكِرُوا مِنْ جِهَةِ الْقَدَرِ أَنَّ اللَّهَ قَدَّرَ مَا يَخْلُقُهُ هُوَ قَبْلَ وُجُودِهِ. وَإِنَّمَا أَنْكَرَ مَنْ أَنْكَرَ مِنْهُمْ إذَا اشْتَبَهَ أَمْرُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ. وَهَؤُلَاءِ يَقولونَ إنَّ اللَّهَ يُقَدِّرُ الْأُمُورَ قَبْلَ وُجُودِهَا إلَّا أَفْعَالَ الْعِبَادِ وَالسَّعَادَةَ وَالشَّقَاوَةَ. فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَعْلَمَهُ حَتَّى يَكُونَ لِأَنَّ أَمْرَ الْأَمِيرِ بِمَا يَعْلَمُ أَنَّ الْمُكَلَّفَ لَا يُطِيعُهُ فِيهِ بَلْ يَكُونُ ضَرَرًا عَلَيْهِ مُسْتَقْبَحٌ عِنْدَهُمْ. وَقَدْ حَكَى طَوَائِفُ مِنْ الْمُصَنَّفِينَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَغَيْرِهِمْ الْخِلَافَ فِي ذَلِكَ عَنْ الْمُعْتَزِلَةِ. وَقَالُوا: يَجُوزُ أَنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ الْعَبْدَ بِمَا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ. لِأَنَّ فِي جِنْسِ الْمُعْتَزِلَةِ مَنْ يُخَالِفُ فِي ذَلِكَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يُخَالِفُ فِي ذَلِكَ؛ وَإِنَّمَا يُخَالِفُ فِيهِ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ. فَإِذَا كَانَ القرآن قَدْ أَثْبَتَ أَنَّهُ الْمُلْهِمُ لِلنَّفْسِ فُجُورَهَا وتقواها كَانَ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ مَفْعُولَاتِهِ. فَلَا تَبْقَى شُبْهَةُ الْقَدَرِيَّةِ أَنَّهُ قَدَّرَ ذَلِكَ قَبْلَ وُجُودِهِ كَمَا لَا شُبْهَةَ عِنْدِهِمْ فِي تَقْدِيرِهِ لِمَا يَخْلُقُهُ مِنْ الْأَعْيَانِ وَالصِّفَاتِ.
وَأَمَّا مَنْ أَنْكَرَ تَقْدِيرَهُ الْعِلْمَ مِنْ مُنْكِرَةِ الصِّفَاتِ أَوْ بَعْضِهَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ مَأْخَذٌ آخَرُ لَيْسَ مَأْخَذُهُمْ أَمْرَ الصِّفَاتِ..
الوجه الثالث: أَنَّهُ قَدْ كَانَ أَلْهَمَ الْفُجُورَ وَالتَّقْوَى وَهُوَ خَالِقُ فِعْلِ الْعَبْدِ. فلابد أَنْ يَعْلَمَ مَا خَلَقَهُ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُ كَمَا قال: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} لِأَنَّ الْفَاعِلَ الْمُخْتَارَ يُرِيدُ مَا يَفْعَلُهُ وَالْإِرَادَةُ مُسْتَلْزِمَةٌ لِتَصَوُّرِ الْمُرَادِ. وَذَلِكَ هُوَ الْعِلْمُ بِالْمُرَادِ الْمَفْعُولِ. وَإِذَا كَانَ خُلُقُهُ لِلشَّيْءِ مُسْتَلْزِمًا لِعِلْمِهِ بِهِ فَذَلِكَ أَصْلُ الْقَدَرِ السَّابِقِ وَمَا عَلِمَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِقوله وَبِكُتُبِهِ فَلَا نِزَاعَ فِيهِ. وَهَذَا بَيِّنٌ فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ فِي هَذَا وَغَيْرِهِ. فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ إذَا أَلْهَمَ الْفُجُورَ وَالتَّقْوَى فَالْمُلْهَمُ إنْ لَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَ الْفُجُورِ وَالتَّقْوَى وَيَعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَفْعَلَهُ هَذَا فُجُورٌ وَاَلَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَفْعَلَهُ هَذَا تَقْوَى لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ إلْهَامُ الْفُجُورِ وَالتَّقْوَى. فَظَهَرَ بِهَذَا حُسْنُ مَا ذَكَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ تَصْدِيقِ الْآيَةِ لِمَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْقَدَرِ السَّابِقِ. وَقوله سبحانه: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وتقواها} كَمَا يَدُلُّ عَلَى الْقَدَرِ فَيَدُلُّ عَلَى الشَّرْعِ. فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ (فَأَلْهَمَهَا أَفْعَالَهَا) كَمَا يَقول النَّاسُ (خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ) لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ تَمْيِيزٌ بَيْنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالْمَحْبُوبِ وَالْمَكْرُوهِ وَالْمَأْمُورِ بِهِ وَالْمَنْهِيِّ عَنْهُ. بَلْ كَانَ فِيهِ حُجَّةٌ لِلْمُشْرِكِينَ مِنْ المباحية وَالْجَبْرِيَّةِ الَّذِينَ يَدْفَعُونَ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالْحُسْنَ وَالْقُبْحَ؛ فَإِنَّهُ خَلَقَ أَفْعَالَ الْعِبَادِ. فَلَمَّا قال: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وتقواها} كَانَ الْكَلَامُ تَفْرِيقًا بَيْنَ الْحَسَنِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَالْقَبِيحِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَأَنَّ الْأَفْعَالَ مُنْقَسِمَةٌ إلَى حَسَنٍ وَسَيِّئٍ مَعَ كَوْنِهِ تَعَالَى خَالِقَ الصِّنْفَيْنِ. وَهَذِهِ طَرِيقَةُ القرآن فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ يَذْكُرُ الْمُؤْمِنَ وَالْكَافِرَ وَأَفْعَالَهُمَا الْحَسَنَةَ وَالسَّيِّئَةَ ووَعْدَهُ وَوَعِيدَهُ؛ وَيَذْكُرُ أَنَّهُ خَالِقُ الصِّنْفَيْنِ كَقوله: {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَهَذَا الْأَصْلُ ضَلَّتْ فِيهِ الْجَبْرِيَّةُ وَالْقَدَرِيَّةُ: فَإِنَّ الْقَدَرِيَّةَ الْمَجُوسِيَّةَ قَالُوا: إنَّ الْأَفْعَالَ تَنْقَسِمُ إلَى حَسَنٍ وَقَبِيحٍ لِصِفَاتٍ قَائِمَةٍ بِهَا وَالْعَبْدُ هُوَ الْمُحْدِثُ لَهَا بِدُونِ قُدْرَةِ اللَّهِ وَبِدُونِ خَلْقِهِ. فَقَالَتْ الْجَبْرِيَّةُ: بَلْ الْعَبْدُ مَجْبُورٌ عَلَى فِعْلِهِ وَالْجَبْرُ حَقٌّ يُوجِبُ وُجُودَ أَفْعَالِهِ عِنْدَ وُجُودِ الْأَسْبَابِ الَّتِي يَخْلُقُهَا اللَّهُ وَامْتِنَاعُ وَجُودِهَا عِنْدَ عَدَمِ شَيْءٍ مِنْ الْأَسْبَابِ. وَإِذَا كَانَ مَجْبُورًا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ حَسَنًا أَوْ قَبِيحًا لِمَعْنَى يَقُومُ بِهِ.
وَهَذِهِ طَرِيقَةُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِي وَنَحْوِهِ مِنْ الْجَبْرِيَّةِ النَّافِينَ لِانْقِسَامِ الْفِعْلِ فِي نَفْسِهِ إلَى حَسَنٍ وَقَبِيحٍ. وَالْأُولَى طَرِيقَةُ أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ وَنَحْوِهِ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ لَمْ يُحْدِثْهُ إلَّا هُوَ وَالْعِلْمُ بِذَلِكَ ضَرُورِيٌّ أَوْ نَظَرِيٌّ؛ وَأَنَّ الْفِعْلَ يَنْقَسِمُ فِي نَفْسِهِ إلَى حَسَنٍ وَقَبِيحٍ وَالْعِلْمُ بِذَلِكَ ضَرُورِيٌّ. وَأَبُو الْحُسَيْنِ هُوَ أمام الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَلَهُ مِنْ الْعَقْلِ وَالْفَضْلِ مَا لَيْسَ لِأَكْثَرِ نُظَرَائِهِ. لَكِنْ هُوَ قَلِيلُ الْمَعْرِفَةِ بِالسُّنَنِ وَمَعَانِي القرآن وَطَرِيقَةِ السَّلَفِ. وَهُوَ وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِي فِي هَذَا الْبَابِ فِي طَرَفَيْ نَقِيضٍ وَمَعَ كُلٍّ مِنْهُمَا مِنْ الْحَقِّ مَا لَيْسَ مَعَ الْآخَرِ. فَأَبُو الْحُسَيْنِ يَدَّعِي أَنَّ الْعِلْمَ بِأَنَّ الْعَبْدَ يُحْدِثُ فِعْلَهُ ضَرُورِيٌّ وَالرَّازِي يَدَّعِي أَنَّ الْعِلْمَ بِأَنَّ افْتِقَارَ الْفِعْلِ الْمُحْدَثِ الْمُمْكِنِ إلَى مُرَجَّحٍ يَجِبُ وَجُودُهُ عِنْدَهُ وَيَمْتَنِعُ عِنْدَ عَدَمِهِ ضَرُورِيٌّ كَذَلِكَ. بَلْ كِلَاهُمَا صَادِقٌ فِيمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ. ثُمَّ يَعْتَقِدُ كُلُّ فَرِيقٍ أَنَّ هَذَا الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ يُبْطِلُ مَا ادَّعَاهُ الْآخَرُ مِنْ الضَّرُورَةِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ. بَلْ كِلَاهُمَا صَادِقٌ فِيمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ وَمُصِيبٌ فِي ذَلِكَ وَإِنَّمَا وَقَعَ غَلَطُهُ فِي إنْكَارِهِ مَا مَعَ الْآخَرِ مِنْ الْخَلْقِ. فَإِنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ كَوْنِ الْعَبْدِ مُحْدِثًا لِفِعْلِهِ وَكَوْنِ هَذَا الْأحداثِ مُمْكِنُ الْوُجُودِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَلِهَذَا كَانَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ الْمَحْضَةِ أَنَّ الْعَبْدَ فَاعِلٌ لِفِعْلِهِ حَقِيقَةً كَمَا ادَّعَاهُ أَبُو الْحُسَيْنِ مِنْ الضَّرُورَةِ؛ لَا يَقولونَ: لَيْسَ بِفَاعِلِ حَقِيقَةً أَوْ لَيْسَ بِفَاعِلِ كَمَا يَقوله الْمَائِلُونَ إلَى الْجَبْرِ مِثْلُ طَائِفَةِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِي. يَقولونَ مَعَ ذَلِكَ: إنَّ اللَّهَ هُوَ الْخَالِقُ لِهَذَا الْفَاعِلِ وَلِفِعْلِهِ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَهُ فَاعِلًا حَقِيقَةً وَهُوَ خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ كَمَا يَقوله أَهْلُ الْإِثْبَاتِ مِنْ الْأَشْعَرِيَّةِ طَائِفَةِ الرَّازِي وَغَيْرِهِمْ؛ لَا كَمَا يَقوله الْقَدَرِيَّةُ مِثْلُ أَبِي الْحُسَيْنِ وَطَائِفَتِهِ: إنَّ اللَّه لَمْ يَخْلُقْ أَفْعَالَ الْعِبَادِ. وَلِهَذَا نَصَّ الْأَئِمَّةُ كَالْأمام أَحْمَد وَمَنْ قَبْلَهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ كالأوزاعي وَغَيْرِهِ عَلَى إنْكَارِ إطْلَاقِ الْقول بِالْجَبْرِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا فَلَا يُقَالُ (إنَّ اللَّهَ جَبَرَ الْعِبَادَ) وَلَا يُقَالُ (لَمْ يَجْبُرْهُمْ). فَإِنَّ لَفْظَ (الْجَبْرِ) فِيهِ اشْتِرَاكٌ وَإِجْمَالٌ. فَإِذَا قِيلَ (جَبَرَهُمْ) أَشْعَرَ بِأَنَّ اللَّهَ يُجْبِرُهُمْ عَلَى فِعْلِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِمْ وَإِذَا قِيلَ (لَمْ يُجْبِرْهُمْ) أَشْعَرَ بِأَنَّهُمْ يَفْعَلُونَ مَا يَشَاءُونَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ وَكِلَاهُمَا خَطَأٌ. وَقَدْ بَسَطْنَا الْقول فِي هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ هَذَيْنِ الْفَرِيقَيْنِ اعْتَقَدُوا تَنَافِي الْقَدَرِ وَالشَّرْعِ كَمَا اعْتَقَدَ ذَلِكَ الْمَجُوسُ وَالْمُشْرِكُونَ فَقَالُوا: إذَا كَانَ خَالِقًا لِلْفِعْلِ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ فِي نَفْسِهِ حَسَنًا لَهُ ثَوَابٌ أَوْ قَبِيحًا عَلَيْهِ عِقَابٌ. ثُمَّ قَالَتْ الْقَدَرِيَّةُ: لَكِنَّ الْفِعْلَ مُنْقَسِمٌ فَلَيْسَ خَالِقًا لِلْفِعْلِ. وَقَالَتْ الْجَبْرِيَّةُ: لَكِنَّهُ خَالِقٌ فَلَيْسَ الْفِعْلُ مُنْقَسِمًا. وَلَكِنَّ الْجَبْرِيَّةَ الْمُقِرُّونَ بِالرُّسُلِ يُقِرُّونَ بِالِانْقِسَامِ مِنْ جِهَةِ أَمْرِ الشَّارِعِ وَنَهْيِهِ فَقَطْ وَيَقولونَ: لَهُ أَنْ يَأْمُرَ بِمَا شَاءَ لَا لِمَعْنَى فِيهِ وَيَنْهَى عَمَّا يَشَاءُ لَا لِأَجْلِ مَعْنًى فِيهِ وَيَقولونَ فِي خَلْقِهِ وَفِي أَمْرِهِ جَمِيعًا: يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ. وَأَمَّا مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ رَأْيٌ أَوْ هَوًى فَإِنَّهُ يَنْحَلُّ عَنْ رِبْقَةِ الشَّارِعِ إذَا عَايَنَ الْجَبْرَ وَيَقولونَ مَا يَقوله الْمُشْرِكُونَ {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} وَمَنْ أَقَرَّ بِالشَّرْعِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْي وَالْحُسْنِ وَالْقُبْحِ دُونَ الْقَدَرِ وَخَلْقِ الْأَفْعَالِ كَمَا عَلَيْهِ الْمُعْتَزِلَةُ فَهُوَ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ الْمَجُوسِيَّةِ الَّذِينَ شَابَهُوا الْمَجُوسَ. وَلِلْمُعْتَزِلَةِ مِنْ مُشَابَهَةِ الْمَجُوسِ وَالْيَهُودِ نَصِيبٌ وَافِرٌ. وَمَنْ أَقَرَّ بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ وَخَلْقِ الْأَفْعَالِ وَعُمُومِ الرُّبُوبِيَّةِ وَأَنْكَرَ الْمَعْرُوفَ وَالْمُنْكِرَ وَالْهُدَى وَالضَّلَالَ وَالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ فَفِيهِ شَبَهٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَالصَّابِئَةِ.
وَكَانَ الْجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ وَمَنْ اتَّبَعَهُ كَذَلِكَ لَمَّا نَاظَرَ أَهْلَ الْهِنْدِ كَمَا كَانَ الْمُعْتَزِلَةُ كَذَلِكَ لَمَّا نَاظَرُوا الْمَجُوسَ الْفُرْسَ وَالْمَجُوسُ أَرْجَحُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ. فَإِنَّ مَنْ أَنْكَرَ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ أَوْ لَمْ يُقِرَّ بِذَلِكَ فَهُوَ مُشْرِكٌ صَرِيحٌ كَافِرٌ أَكْفَرُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ كَمَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَكَلِّمَةِ وَالْمُتَصَوِّفَةِ أَهْلِ الْإِبَاحَةِ وَنَحْوِهِمْ. وَلِهَذَا لَمْ يَظْهَرْ هَؤُلَاءِ وَنَحْوُهُمْ فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لِقُرْبِ عَهْدِهِمْ بِالنُّبُوَّةِ. وَإِنَّمَا ظَهَرَ أُولَئِكَ الْقَدَرِيَّةُ الْمَجُوسِيَّةُ لِأَنَّ مَذْهَبَهُمْ فِيهِ تَعْظِيمٌ لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ. فَهُمْ أَقْرَبُ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالرَّسُولِ وَالدِّينِ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُعَطِّلَةِ لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ مِنْ شَرِّ الْخَلْقِ. وَأَمَّا الْقَدَرِيَّةُ الإبليسية فَهَمّ الَّذِينَ يُقِرُّونَ بِوُجُودِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مِنْ اللَّهِ وَيُقِرُّونَ مَعَ ذَلِكَ بِوُجُودِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ مِنْهُ لَكِنْ يَقولونَ: هَذَا فِيهِ جَهْلٌ وَظُلْمٌ. فَإِنَّهُ بِتَنَاقُضِهِ يَكُونُ جَهْلًا وَسَفَهًا وَبِمَا فِيهِ مِنْ عُقُوبَةِ الْعَبْدِ بِمَا خَلَقَ فِيهِ يَكُونُ ظُلْمًا. وَهَذَا حَالُ إبْلِيسَ. فَإِنَّهُ قال: {بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}. فَأَقَرَّ بِأَنَّ اللَّهَ أَغْوَاهُ ثُمَّ جَعَلَ ذَلِكَ عِنْدَهُ دَاعِيًا يَقْتَضِي أَنْ يُغْوِيَ هُوَ ذَرِّيَّةَ آدَمَ. وَإِبْلِيسٌ هُوَ أَوَّلُ مَنْ عَادَى اللَّهَ وَطَغَى فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ وَعَارَضَ النَّصَّ بِالْقِيَاسِ. وَلِهَذَا يَقول بَعْضُ السَّلَفِ: أَوَّلُ مَنْ قَاسَ إبْلِيسُ. فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ فَاعْتَرَضَ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ بِأَنِّي خَيْرٌ مِنْهُ وَامْتَنَعَ مِنْ السُّجُودِ. فَهُوَ أَوَّلُ مَنْ عَادَى اللَّهَ وَهُوَ الْجَاهِلُ الظَّالِمُ الْجَاهِلُ بِمَا فِي أَمْرِ اللَّهِ مِنْ الْحِكْمَةِ الظَّالِمُ بِاسْتِكْبَارِهِ الَّذِي جَمَعَ فِيهِ بَيْنَ بَطَرِ الْحَقِّ وَغَمْطِ النَّاسِ. ثُمَّ قوله لِرَبِّهِ (فَبِمَا أَغْوَيْتِنِي لَأَفْعَلَنَّ) جَعَلَ فِعْلَ اللَّهِ الَّذِي هُوَ إغْوَاؤُهُ لَهُ حُجَّةً لَهُ وَدَاعِيًا إلَى أَنْ يُغْوِيَ ابْنَ آدَمَ. وَهَذَا طَعْنٌ مِنْهُ فِي فِعْلِ اللَّهِ وَأَمْرِهِ وَزَعْمٌ مِنْهُ أَنَّهُ قَبِيحٌ فَأَنَا أَفْعَلُ الْقَبِيحَ أَيْضًا. فَقَاسَ نَفْسَهُ عَلَى رَبِّهِ وَمَثَّلَ نَفْسَهُ بِرَبِّهِ. وَلِهَذَا كَانَ مُضَاهِيًا لِلرُّبُوبِيَّةِ كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ إبْلِيسَ يَنْصِبُ عَرْشَهُ عَلَى الْبَحْرِ ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ فَأَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً أَقْرَبُهُمْ إلَيْهِ مَنْزِلَةً. فَيَجِيءُ الرَّجُلُ فَيَقول: مَا زِلْت بِهِ حَتَّى فَعَلَ كَذَا. ثُمَّ يَجِيءُ الْآخَرُ فَيَقول: مَا زِلْت بِهِ حَتَّى فَرَّقْت بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ فَيَلْتَزِمُهُ وَيُدْنِيهِ مِنْهُ وَيَقول: أَنْتَ أَنْتَ».
وَالْقَدَرِيَّةُ قَصَدُوا تَنْزِيهَ اللَّهِ عَنْ السَّفَهِ وَأَحْسَنُوا فِي هَذَا الْقَصْدِ. فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ مُقَدَّسٌ عَمَّا يَقول الظَّالِمُونَ مِنْ إبْلِيسَ وَجُنُودِهِ عُلُوًّا كَبِيرًا حَكَمٌ عَدْلٌ. لَكِنْ ضَاقَ ذَرْعُهُمْ وَحَصَلَ عِنْدَهُمْ نَوْعُ جَهْلٍ اعْتَقَدُوا مَعَهُ أَنَّ هَذَا التَّنْزِيهَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِأَنْ يَسْلُبُوهُ قُدْرَتَهُ عَلَى أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَخَلْقِهِ لَهَا وَشُمُولِ إرَادَتِهِ لِكُلِّ شَيْءٍ. فَنَاظَرُوا إبْلِيسَ وَحِزْبَهُ فِي شَيْءٍ وَاسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ إبْلِيسُ مِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى. وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ آفَاتِ الْجِدَالِ فِي الدِّينِ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَوْ بِغَيْرِ الْحَقِّ. وَهُوَ الْكَلَامُ الَّذِي ذَمَّهُ السَّلَفُ فَإِنَّ صَاحِبَهُ يَرُدُّ بَاطِلًا بِبَاطِلِ وَبِدْعَةً بِبِدْعَةِ. فَجَاءَ طَوَائِفُ مِمَّنْ نَاظَرَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ لِيُقَرِّرُوا أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. فَضَاقَ ذَرْعُهُمْ وَعِلْمُهُمْ وَاعْتَقَدُوا أَنَّ هَذَا لَا يَتِمُّ إنْ لَمْ نُنْكِرْ مَحَبَّةَ اللَّهِ وَرِضَاهُ وَمَا خَصَّ بِهِ بَعْضَ الْأَفْعَالِ دُونَ بَعْضٍ مِنْ الصِّفَاتِ الْحَسَنَةِ وَالسَّيِّئَةِ؛ وَنُنْكِرُ حِكْمَتَهُ وَرَحْمَتَهُ فَيَجُوزُ عَلَيْهِ كُلُّ فِعْلٍ لَا يُنَزَّهُ عَنْ ظُلْمٍ وَلَا غَيْرِهِ مِنْ الْأَفْعَالِ. وَزَادَ قَوْمٌ فِي ذَلِكَ حَتَّى عَطَّلُوا الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ رَأْسًا. وَمَالَ هَؤُلَاءِ إلَى الْإِرْجَاءِ كَمَا مَالَ الْأَوَّلُونَ إلَى الْوَعِيدِ. فَقَالَتْ الوعيدية:
كُلُّ فَاسِقٍ خَالِدٌ فِي النَّارِ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا أَبَدًا؛ وَقَالَتْ الْخَوَارِجُ: هُوَ كَافِرٌ. وَغَالِيَةُ الْمُرْجِئَةِ أَنْكَرَتْ عِقَابَ أحد مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ. وَمَنْ صَرَّحَ بِالْكُفْرِ أَنْكَرَ الْوَعِيدَ فِي الْآخِرَةِ رَأْسًا كَمَا يَفْعَلُهُ طَوَائِفُ مِنْ الِاتِّحَادِيَّةِ والمتفلسفة وَالْقرامِطَةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ. وَكَانَ هَؤُلَاءِ الْجَبْرِيَّةُ الْمُرْجِئَةُ أَكْفَرُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ الوعيدية الْقَدَرِيَّةِ. وَأَمَّا مُقْتَصِدَةُ الْمُرْجِئَةِ الْجَبْرِيَّةِ الَّذِينَ يُقِرُّونَ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَأَنَّ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ مَنْ يَدْخُلُ النَّارَ فَهَؤُلَاءِ أَقْرَبُ النَّاسِ إلَى أَهْلِ السُّنَّةِ. وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «لُعِنَتْ الْقَدَرِيَّةُ وَالْمُرْجِئَةُ عَلَى لِسَانِ سَبْعِينَ نَبِيًّا أَنَا آخِرُهُمْ». لَكِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ أَصْلَحُ مِنْ الْجَبْرِيَّةِ وَالْمُرْجِئَةِ وَنَحْوِهِمْ فِي الشَّرِيعَةِ عِلْمَهَا وَعَمَلَهَا. فَكَلَامُهُمْ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَفِي اتِّبَاعِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ خَيْرٌ مِنْ كَلَامِ الْمُرْجِئَةِ مِنْ الْأَشْعَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ. فَإِنَّ كَلَامَ هَؤُلَاءِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ قَاصِرٌ جِدًّا وَكَذَلِكَ هُمْ مُقَصِّرُونَ فِي تَعْظِيمِ الطَّاعَاتِ وَالْمَعَاصِي. وَلَكِنْ هُمْ فِي أُصُولِ الدِّينِ أَصْلَحُ مِنْ أُولَئِكَ فَإِنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ وَخَلْقِهِ بِمَا لَا يُؤْمِنُ بِهِ أُولَئِكَ. وَهَذَا الصِّنْفُ أَعْلَى.
فَلِهَذَا كَانَتْ الْمُرْجِئَةُ فِي الْجُمْلَةِ خَيْرًا مِنْ الْقَدَرِيَّةِ حَتَّى إنَّ الْإِرْجَاءَ دَخَلَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَغَيْرِهِمْ بِخِلَافِ الِاعْتِزَالِ. فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أحد مِنْ فُقَهَاءِ السَّلَفِ وَأَئِمَّتِهِمْ.
فَصْلٌ:
فَإِذَا كَانَ الضَّلَالُ فِي الْقَدَرِ حَصَلَ تَارَةً بِالتَّكْذِيبِ بِالْقَدَرِ وَالْخَلْقِ. وَتَارَةً بِالتَّكْذِيبِ بِالشَّرْعِ وَالْوَعِيدِ وَتَارَةً بِتَظْلِيمِ الرَّبِّ كَانَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ رَدًّا عَلَى هَذِهِ الطَّوَائِفِ كُلِّهَا. فَقوله تعالى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وتقواها} إثْبَاتٌ لِلْقَدَرِ بِقوله: {فَأَلْهَمَهَا}؛ وَإِثْبَاتٌ لِفِعْلِ الْعَبْدِ بِإِضَافَةِ الْفُجُورِ وَالتَّقْوَى إلَى نَفْسِهِ لِيَعْلَمَ أَنَّهَا هِيَ الْفَاجِرَةُ وَالْمُتَّقِيَةُ؛ وَإِثْبَاتٌ لِلتَّفْرِيقِ بَيْنَ الْحَسَنِ وَالْقَبِيحِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ بِقوله: {فُجُورَهَا وتقواها}. وَقوله بَعْدَ ذَلِكَ {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زكاها وَقَدْ خَابَ مَنْ دساها} إثْبَاتٌ لِفِعْلِ الْعَبْدِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ بِفَلَاحِ مَنْ زَكَّى نَفْسَهُ وَخَيْبَةِ مَنْ دساها. وَهَذَا صَرِيحٌ فِي الرَّدِّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ الْمَجُوسِيَّةِ وَعَلَى الْجَبْرِيَّةِ لِلشَّرْعِ أَوْ لِفِعْلِ الْعَبْدِ وَهُمْ الْمُكَذِّبُونَ بِالْحَقِّ.
وَأَمَّا الْمُظْلِمُونَ لِلْخَالِقِ فَإِنَّهُ قَدْ دَلَّ عَلَى عَدْلِهِ بِقوله: {وَنَفْسٍ وَمَا سواها} وَالتَّسْوِيَةُ: التَّعْدِيلُ. فَبَيَّنَ أَنَّهُ عَادِلٌ فِي تَسْوِيَةِ النَّفْسِ الَّتِي أَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وتقواها. وَذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ عُقُوبَةَ مَنْ كَذَّبَ رُسُلَهُ وَطَغَى وَأَنَّهُ لَا يَخَافُ عَاقِبَةَ انْتِقَامِهِ مِمَّنْ خَالَفَ رُسُلَهُ لِيُبَيِّنَ أَنَّ مَنْ كَذَّبَ بِهَذَا أَوْ بِهَذَا فَإِنَّ اللَّهَ يَنْتَقِمُ مِنْهُ وَلَا يَخَافُ عَاقِبَةَ انْتِقَامِهِ كَمَا انْتَقَمَ مِنْ إبْلِيسِ وَجُنُودِهِ وَأَنَّ تَظَلُّمَهُ مِنْ رَبِّهِ وَتَسْفِيهَهُ لَهُ إنَّمَا يُهْلِكُ بِهِ نَفْسَهُ وَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا. (فَإِنَّ الْعِبَادَ لَنْ يَبْلُغُوا ضُرَّ اللَّهِ فَيَضُرُّوهُ وَلَنْ يَبْلُغُوا نَفْعَهُ فَيَنْفَعُوهُ وَلَوْ أَنَّ أَوَّلَهُمْ وَآخِرَهُمْ وَإِنْسَهُمْ وَجِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ مِنْهُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِهِ شَيْئًا وَلَوْ أَنَّ أَوَّلَهُمْ وَآخِرَهُمْ وَإِنْسَهُمْ وَجِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ مِنْهُمْ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِهِ شَيْئًا). وَلِهَذَا لَمَّا سَأَلَ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ أَبَا الْأُسُودِ الدؤلي عَنْ ذَلِكَ لِيَحْزِرَ عَقْلَهُ (هَلْ يَكُونُ ذَلِكَ ظُلْمًا؟) فَذَكَرَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْهُ ظُلْمًا وَخَافَ مِنْ قوله: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقولونَ عُلُوًّا كَبِيرًا} وَذَكَرَ حَدِيثَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَاسْتِشْهَادَهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ. وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْقَدَرِيَّةَ الْخَائِضِينَ بِالْبَاطِلِ إمَّا أَنْ يَكُونُوا مُكَذِّبِينَ لِمَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّبُّ مِنْ خَلْقِهِ أَوْ أَمْرِهِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا مُظْلِمِينَ لَهُ فِي حُكْمِهِ. وَهُوَ سُبْحَانَهُ الصَّادِقُ الْعَدْلُ كَمَا قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}. فَإِنَّ الْكَلَامَ إمَّا إنْشَاءٌ وَإِمَّا إخْبَارٌ. فَالْإِخْبَارُ صِدْقٌ لَا كَذِبٌ؛ وَالْإِنْشَاءُ أَمْرُ التَّكْوِينِ وَأَمْرُ التَّشْرِيعِ عَدْلٌ لَا ظُلْمٌ. وَالْقَدَرِيَّةُ الْمَجُوسِيَّةُ كَذَّبُوا بِمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ خَلْقِهِ وَشَرْعِهِ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ والإبليسية جَعَلُوهُ ظَالِمًا فِي مَجْمُوعِهِمَا أَوْ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا. وَقَدْ ظَهَرَ بِذَلِكَ أَنَّ الْمُفْتَرِقِينَ الْمُخْتَلِفِينَ مِنْ الْأُمَّةِ إنَّمَا ذَلِكَ بِتَرْكِهِمْ بَعْضَ الْحَقِّ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ نَبِيَّهُ وَأَخْذِهِمْ بَاطِلًا يُخَالِفُهُ وَاشْتِرَاكِهِمْ فِي بَاطِلٍ يُخَالِفُ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ. وَهُوَ مِنْ جِنْسِ مُخَالِفَةِ الْكُفَّارِ لِلْمُؤْمِنِينَ كَمَا قال تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} إلَى قوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتتلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}. فَإِذَا اشْتَرَكُوا فِي بَاطِلٍ خَالَفُوا بِهِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّبِعِينَ لِلرُّسُلِ نَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَلْقَى بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ وَاخْتَلَفُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ فِي حَقٍّ آخَرَ جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ فَآمَنِ هَؤُلَاءِ بِبَعْضِهِ وَكَفَرُوا بِبَعْضِهِ وَالْآخَرُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا كَفَرَ بِهِ هَؤُلَاءِ وَيَكْفُرُونَ بِمَا يُؤْمِنُ بِهِ هَؤُلَاءِ. وَهُنَا كِلَا الطَّائِفَتَيْنِ الْمُخْتَلِفَتَيْن الْمُفْتَرِقَتَيْن مَذْمُومَةٌ.
وَهَذَا شَأْنُ عَامَّةِ الِافْتِرَاقِ وَالِاخْتِلَافِ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ وَغَيْرِهَا. وَهَذَا مِنْ ذَلِكَ. فَإِنَّهُمْ اشْتَرَكُوا فِي أَنَّ كَوْنَ الرَّبِّ خَالِقًا لِفِعْلِ الْعَبْدِ يُنَافِي كَوْنَ فِعْلِهِ مُنْقَسِمًا إلَى حَسَنٍ وَقَبِيحٍ. وَهَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ اشْتَرَكُوا فِيهَا جَدَلًا مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ حَقًّا فِي نَفْسِهَا أَوْ عَلَيْهَا حُجَّةٌ مُسْتَقِيمَةٌ. وَهِيَ إحدى الْمُقَدِّمَتَيْنِ الَّتِي يَعْتَمِدُهَا الرَّازِي فِي مَسْأَلَةِ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ. فَإِنَّهُ اعْتَقَدَ فِي (مَحْصُولِهِ) وَغَيْرِهِ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ مَجْبُورٌ عَلَى فِعْلِهِ وَالْمَجْبُورُ لَا يَكُونُ فِعْلُهُ قَبِيحًا فَلَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ قَبِيحًا. وَهَذِهِ الْحُجَّةُ بِنَفْيٍ ذَلِكَ أَصْلُهَا حُجَّةُ الْمُشْرِكِينَ الْمُكَذِّبِينَ لِلرُّسُلِ الَّذِينَ قَالُوا {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} فَإِنَّهُمْ نَفَوْا قُبْحَ الشِّرْكِ وَتَحْرِيمَ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ مِنْ الطَّيِّبَاتِ بِإِثْبَاتِ الْقَدَرِ. لَكِنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَحْتَجُّونَ بِالْجَبْرِ عَلَى نَفْيِ الْأَحْكَامِ إذَا أَقَرُّوا بِالشَّرْعِ لَمْ يَكُونُوا مِثْلَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ الْمُتَكَلِّمُونَ الْمُقِرُّونَ بِالشَّرِيعَةِ كَالْمُشْرِكِينَ وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ جُزْءٌ مِنْ بَاطِلٍ الْمُشْرِكِينَ. لَكِنْ يُوجَدُ فِي الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْمُتَصَوِّفَةِ طَوَائِفُ يَغْلِبُ عَلَيْهِمْ الْجَبْرُ حَتَّى يَكْفُرُوا حِينَئِذٍ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ إمَّا قولا وَإِمَّا حَالًا وَعَمَلًا. وَأَكْثَرُ مَا يَقَعُ ذَلِكَ فِي الْأَفْعَالِ الَّتِي تُوَافِقُ أَهْوَاءَهُمْ يَطْلُبُونَ بِذَلِكَ إسْقَاطَ اللَّوْمِ وَالْعِقَابِ عَنْهُمْ وَلَا يَزِيدُهُمْ ذَلِكَ إلَّا ذَمًّا وَعِقَابًا كَالْمُسْتَجِيرِ مِنْ الرَّمْضَاءِ بِالنَّارِ. فَإِنَّ هَذَا الْقول لَا يُطَرَّدُ الْعَمَلُ بِهِ لِأحد إذْ لَا غِنَى لِبَنِي آدَمَ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ مِنْ إرَادَةِ شَيْءٍ وَالْأَمْرِ بِهِ وَبُغْضِ شَيْءٍ وَالنَّهْيِ عَنْهُ. فَمَنْ طَلَبَ أَنْ يُسَوَّى بَيْنَ الْمَحْبُوبِ وَالْمَكْرُوهِ وَالْمَرْضِيِّ وَالْمَسْخُوطِ وَالْعَدْلِ وَالظُّلْمِ وَالْعِلْمِ وَالْجَهْلِ وَالضَّلَالِ وَالْهُدَى وَالرُّشْدِ وَالْغَيِّ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَمِرُّ عَلَى ذَلِكَ أَبَدًا. بَلْ إذَا حَصَلَ لَهُ مَا يَكْرَهُهُ وَيُؤْذِيهِ فَرَّ إلَى دَفْعِ ذَلِكَ وَعُقُوبَةُ فَاعِلِهِ بِمَا قَدَرَ عَلَيْهِ حَتَّى يَعْتَدِيَ فِي ذَلِكَ. فَهُمْ مِنْ أَظْلَمِ الْخَلْقِ فِي تَفْرِيقِهِمْ بَيْنَ الْقَبِيحِ مِنْ الظُّلْمِ وَالْفَوَاحِشِ مِنْهُمْ وَمِنْ غَيْرِهِمْ وَمِمَّنْ يَهْوُونَهُ وَمَنْ لَا يَهْوُونَهُ وَاحْتِجَاجُهُمْ بِالْقَدَرِ لِأَنْفُسِهِمْ دُونَ خُصُومِهِمْ. وَتَجِدُ أحدهُمْ عِنْدَ فِعْلِ مَا يُحْمَدُ عَلَيْهِ يَغْلِبُ عَلَى قَلْبِهِ حَالُ أَهْلِ الْقَدَرِ فَيَجْعَلُ نَفْسَهُ هُوَ الْمُحْدِثُ لِذَلِكَ دُونَ اللَّهِ وَيَنْسَى نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي إلْهَامِهِ إيَّاهُ تَقْوَاهُ. وَهَذَا مِنْ أَظْلَمِ الْخَلْقِ كَمَا قَالَ أَبُو الْفَرَجِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: أَنْتَ عِنْدَ الطَّاعَةِ قَدَرِيٌّ وَعِنْدَ الْمَعْصِيَةِ جَبْرِيٌّ أَيُّ مَذْهَبٍ وَافَقَ هَوَاك تَمَذْهَبْت بِهِ. وَأَهْلُ الْعَدْلِ ضِدُّ ذَلِكَ. إذَا فَعَلُوا حَسَنَةً شَكَرُوا اللَّهَ عَلَيْهَا لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي حَبَّبَ إلَيْهِمْ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِهِمْ وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي كَرَّهَ إلَيْهِمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ؛ {وَالَّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ}. فَاتَّبَعُوا أَبَاهُمْ حَيْثُ أَذْنَبَ: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} وَقال: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}. وَيَقول أحدهُمْ «أَبُوءُ لَك بِنِعْمَتِك على وَأَبُوءُ بِذَنْبِي» كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ يَقول الْعَبْدُ اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ. خَلَقْتِنِي وَأَنَا عَبْدُك وَأَنَا عَلَى عَهْدِك وَوَعْدِك مَا اسْتَطَعْت أَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْت. أَبُوءُ لَك بِنِعْمَتِك على؛ وَأَبُوءُ بِذَنْبِي. فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ» وَكَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَيْضًا: «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقول: يَا عِبَادِي إنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ تُرَدُّ عَلَيْكُمْ فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ شَرًّا فَلَا يَلُومَن إلَّا نَفْسَهُ». وَيَقولونَ بِمُوجَبِ قوله تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ}.